#أقلام وأراءشؤون فلسطينية

عبد الغني سلامة: كيف ومتى بدأ التغيير في مشروع حماس؟

عبد الغني سلامة ٢٤-٤-٢٠٢٤: كيف ومتى بدأ التغيير في مشروع حماس؟

منذ سيطرتها على قطاع غزة، بدا واضحاً أن لحماس مشروعها السياسي المستقل، والمتمثل بإقامة سلطة لها في قطاع غزة، وهذه السلطة قد تتطور إلى أي شكل من أشكال النفوذ والسيطرة والسيادة، دولة أو أقل لا فرق.

وفي مقال للدكتور رياض عواد، وهو ناشط سياسي مقيم في غزة، بيّن من وجهة نظره أن مشروع حماس لم يتحقق فقط بل ويتطور. 

وقد رصد مظاهر تحقق هذا المشروع من خلال العديد من الشواهد؛ مثل وجود وزارات، وسلطات محلية، تشريعية وقانونية واقتصادية واجتماعية، وموازنة سنوية ومصادر متعددة لهذه الموازنة، وجبي ضرائب ورسوم من المواطنين، وقوات أمنية تحافظ على سير عمل المؤسسات وتنفيذ القانون الذي وضعته. مع غطاء سياسي ونضالي توفره لها الفصائل في غزة، واعتراف وتعامل شعبي محلي مع هذه المؤسسات والأنظمة، سواء بالقبول، أو كأمر واقع، وهناك موافقة ضمنية أو غض نظر من قبل دول الإقليم والعالم، ودعم إقليمي واضح من حلفاء معروفين. 

وقد استطاعت سلطة حماس فرض الأمن الداخلي، وضبط الحدود، واحتواء وتحييد كافة التشكيلات المسلحة التي كانت موجودة حتى أنهتها تقريباً، وحالت دون ممارسة أي عمل مسلح ضد إسرائيل، إلا بإذنها وموافقتها وبحسب تقديراتها للموقف.  

والأهم، ثمة موافقة إسرائيلية غير مباشرة (أو مباشرة) على استمرار سلطة حماس، لأسباب معروفة، أبرزها إدامة الانقسام، ما يعطل أي تسوية سياسية، ويمنح الحكومات الإسرائيلية ذريعة عدم وجود شريك للسلام، وعدم وجود جهة سياسية واحدة تمثل الفلسطينيين، وهذا يعفي نتنياهو من إمكانية الدخول في تسوية قد تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وفي السياق ذاته فإن مشروع حماس يصب في خانة ووجهة نظر اليمين اليهودي الصهيوني في رؤيته لحل القضية الفلسطينية، لأنه يتوافق مع الهدف الإسرائيلي في القضاء على إمكانية تحقيق الاستقلال الوطني. 

ولا يتعارض مع الهدف الأميركي باعتباره خطوة على طريق تطبيق صفقة القرن. 

ومن جهة أخرى يخدم الدول الإقليمية في استخدام غزة كأداة وورقة ضغط لسياساتها ومصالحها.

لذلك قامت سياسات نتنياهو طوال السنوات الماضية على توفير دعم غير مباشر لمشروع حماس، من خلال غض الطرف عن نشاطات حماس وتدريباتها وتهريبها للأسلحة والصواريخ.. والسماح بإدخال المنحة القطرية (وقدرها نحو ثلاثين مليون دولار شهرياً)، والسماح بإدخال بضائع ومنتجات لغزة (وتقدر بنحو 500 شاحنة يومياً)، ومنح تصاريح لعمّال غزة، وهذه أعطت لحماس قدرة على الاستمرار، ومواجهة الضغوط الشعبية، ومنعها من التفاقم إلى حد الانفجار في وجهها. 

وفي الوقت نفسه الذي يدعم فيه نتنياهو سلطة حماس في غزة، كان يتعمد إضعاف السلطة في رام الله، عبر سياسات الحصار المالي والاقتطاعات من أموال المقاصة، وإحراج السلطة أمام شعبها من خلال اجتياحات المدن والمخيمات المتكررة، ومهاجمتها إعلامياً والحديث المتكرر عن دعم السلطة للإرهاب.

وهذه السياسة ليست سراً، بل إن نتنياهو اعترف بها صراحة أمام الكنيست. 

وبعد طوفان الأقصى هاجمت قوى المعارضة نتنياهو، وذكرت أنه كان من داعمي مشروع حماس، وأن سياسته تلك هي التي جلبت الهزيمة إلى إسرائيل.

إذاً، طوال السنوات التي سبقت العدوان، عملت حماس على تطوير مشروعها والقبول بالتفاهمات وبشروط إسرائيل، ضمن معادلة سياسية حددت العلاقات بين حماس وإسرائيل، وتضمنت تحديد قواعد للاشتباك، وتفاهمات أمنية غير مكتوبة، بصيغة الهدوء مقابل المال. 

وأكد د. رياض أن مشروع حماس الخاص والمعادلة التي حكمته ستصطدم، شاءت حماس أم أبت، بصعوبات وتعقيدات ليس لها حل، وهذه المعادلة لم يكن لها أن تصمد طويلاً، وكان لا بد من كسرها عاجلاً أم آجلاً، ولا بد أن تعود العلاقات بين الطرفين إلى حالة الاشتباك والتصادم العنيف، للأسباب الآتية:

أولاً: هدف إسرائيل الوصول بغزة لأن تكون جوهر الحل السياسي للقضية الفلسطينية، عبر ترسيخ دويلة غزة، وحرمان الفلسطينيين من سلطة موحدة سياسياً ودولياً. 

هذا الموقف يتطابق مع صفقة القرن، وتبين أنه متطابق لدرجة ما مع إدارة بايدن أيضاً.

بيد أن هذه السياسة الإسرائيلية لنتنياهو وحكومته ستصطدم مع مواقف أحزاب اليمين الأكثر تطرفاً، التي تتنامى سيطرتها على الجيش والحكم داخل إسرائيل، هذا اليمين لن يتحمل استمرار هذه المعادلة لأنها تتناقض مع مواقفه المتغطرسة وخطابه غير العقلاني. لذلك فإن شن حرب على غزة هو الأقرب إلى تفكيره وأيديولوجيته المتطرفة.

ثانياً: شهية إسرائيل ونهمها وأطماعها لن تتوقف عند حد معين، ولن تسمح للفلسطيني بحفظ ماء وجهه، هذا ما أشارت إليه الاشتراطات الإسرائيلية الجديدة، التي تتزايد مع كل دفعة جديدة من أموال قطر، وهذا الأمر يصعب على حماس التماهي معه أكثر.

ثالثاً: لا تثق إسرائيل بأي جهة خارجية مهما كانت، من الممكن أن تستفيد منها، ولكنها لا يمكن أن تتحالف معها. 

وإسرائيل لن تقبل بوجود أطراف وجيران لها تعاديها وتهددها بالكلمة وبالسلاح، لأن هذا السلاح لا يمكن ضبطه، ويشكل خطراً دائماً ولا يمكن أن يقبله أمن إسرائيل، لذلك فإن المعادلة الرخوة بين حماس وإسرائيل لن تتواصل وستنفجر، شاءت حماس وإسرائيل أم أبتا. وفي هذه الحالة سيتعين على إسرائيل تدمير حماس وقوتها وبنيتها العسكرية وإخراجها من المعادلة، والبحث عن بدائل وأطراف أخرى لا علاقة لها بالمقاومة، ولا بالوطنية والبرنامج الوطني.

رابعاً: لن تستطيع حماس الاستجابة لمطالب وحاجات إسرائيل الأمنية والسياسية التي لن تنتهي ولن تتوقف. 

ومهما بلغت براغماتية حماس ومرونتها لن تصل إلى حد التماهي مع إسرائيل، والانصياع الكامل لها، وهناك أطراف وأفراد داخل حماس لا يقبلون بهذا الوضع ما يؤثر على وحدة حماس الداخلية ويعرضها إلى انشقاقات.

خامساً: ترفض السلطة الوطنية وفتح وفصائل المقاومة، وتحديداً الجهاد والشعبية هذه المعادلة، لأنها ستفقد السلطة إمكانية تحقيق أي حل سياسي، ولأنها ستفقد الفصائل مصداقيتها الوطنية وموقفها الذي يرتكز على المقاومة، هذا الموقف من الجهاد، وأيضاً من تيار داخل حماس، يتماثل مع الموقف الإيراني الذي لن يسمح بهدوء جبهة غزة.

سادساً: هذه المعادلة لا تلبي الحد الأدنى لمطالب وتطلعات الشعب الفلسطيني، ولن تقدم لا حلولاً سياسية ولا اقتصادية ولا حتى أمنية، من هنا ستتعاظم قوة الرفض الشعبي الفلسطيني في غزة وفي كل مكان لهذا المشروع بما في ذلك حماس. 

وما يسرّع من تفجير المعادلة أن الوضع في قطاع غزة لم يعد محتملاً، وقد تحول إلى مكان غير صالح لمعيشة كل هذا العدد من السكان، وقد فُتح باب الهجرة وتزايدت أعداد الشبان الذين هاجروا بالفعل.

وهكذا، وصلت الأمور إلى حد الانفجار الحتمي، لكن هذا الحد لم يبلغ مداه فجأة، بل كان يعتمل في المرجل وعلى مهل، وكانت نقطة التحول (بالنسبة لـ”حماس”) عقب معركة سيف القدس في أيار 2021، أي حين أدركت “حماس” ضرورة التغيير والتحرر من قواعد الاشتباك والمعادلات التي حددت علاقتها بإسرائيل، والتي باتت مصدر حرج لها، وأدركت أن مصيرها صار على المحك، خاصة مع تدهور الأحوال المعيشية في غزة، وفقدان “حماس” العديد من مصادر تمويلها وحلفائها في الإقليم، وبعد فشل كل محاولاتها دخول المجتمع الدولي ونيل اعتراف رسمي بسلطتها، فكان عليها قلب الطاولة على الجميع.

هنا يجدر الحديث عن التحولات السياسية والفكرية لدى الحركة، فمنذ دخولها السلطة، ومن ثم سيطرتها على القطاع فعلت “حماس” كل ما بوسعها لنيل اعتراف إقليمي ودولي بها، بصفتها حركة سياسية ولاعباً أساسياً ومهماً في المنطقة، وبذلت جهوداً كبيرة من أجل دخول نادي المجتمع الدولي، واللعب ضمن قوانينه وقواعده، وأبدت ما فيه الكفاية من المرونة والبراغماتية لتحقيق هذا الهدف.

في البداية قبلت “حماس” الدخول في السلطة الوطنية (وتحت مظلة أوسلو) حين قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية في 2006، وبالفعل، نجحت في الانتخابات، ولم تدخل السلطة وحسب، بل صارت هي السلطة نفسها، إذ هيمنت على المجلس التشريعي، وشكّلت حكومة حمساوية، وبدأت تتصرف كسلطة سياسية. وقد صرح هنية أنه يسمح لوزراء حكومته التعامل مع نظرائهم الإسرائيليين في الحاجات المدنية والإنسانية، ما عدا القضايا السياسية.

وبدأت “حماس” تطرح مبادرات سياسية تارة بشكل معلن وواضح، وتارة بطريقة مواربة من خلال أطروحات ومقالات لشخصيات مقربة منها، أو محسوبة عليها، مبادرة أحمد يوسف مثالاً، ومبادرة دويلة غزة، والحدود المؤقتة.

ثم صرحت علانية بقبولها الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وأميركا، وحينها صرح موسى أبو مرزوق بأن المفاوضات جائزة شرعياً، وليست من المحرمات.

ثم صرحت علانية، وفي أكثر من مناسبة، بقبولها بالحل السياسي القائم على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود الـ67، وعاصمتها القدس مع حل قضية اللاجئين.

وطرحت عدة مرات (أثناء وبعد الانتفاضة الثانية) هدنة طويلة الأمد من 10 إلى 20 سنة، مقابل وقف العمليات المسلحة.

كما تطرقت مراراً وتكراراً لقضايا الحل السياسي على أساس التسوية السلمية، فمثلاً في برنامجها السياسي الانتخابي العام 2006، وكذلك في تبنيها وثيقة الأسرى، وفي بيان حكومة الوحدة الوطنية، وفي عشرات التصريحات لقياداتها والناطقين باسمها، كانت تدور في فلك التسوية السلمية، بقبولها لها وفقاً لمعايير الشرعية الدولية.

وقد توجت هذه التغيرات بإصدارها وثيقة سياسية رسمية، أعلنت عنها من الدوحة في نيسان 2017، واعتبرت بمثابة دستور “حماس” الجديد، وبديلاً عن ميثاق “حماس” التي أعلنته في تموز 1988، ربما كان البند الأهم في الوثيقة قبول “حماس” بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران.. وعدم ذكر أي إشارة أو جملة بخصوص القضاء على إسرائيل.

حتى أن “حماس” قررت في 2018 اعتماد المقاومة الشعبية السلمية، على أمل إيصال رسالة مفادها أن المقاومة الشعبية بديل عن القوة العسكرية.

وهكذا، وبينما كانت القيادة السياسية للحركة تعلن عن تفاصيل واقعيتها السياسية، واستعدادها للتنازل وإبداء المرونة المطلوبة، كانت تلاقي الصد العالمي، وتجاهل هذه الإشارات، وعدم الاعتراف بها، بل ومحاولات إدراجها على قائمة الإرهاب. رغم أن موافقة إسرائيل على مشاركة “حماس” في انتخابات 2006 جاءت بعد ضغوطات أميركية عليها، ومن خلال قطر، وكذلك نقل مقر المكتب السياسي لـ”حماس” إلى الدوحة جاء بتعليمات أميركية، بحسب ما أوضحت سفارة قطر في واشنطن.

ويبدو أن أميركا أرادت توريط “حماس” بإدخالها اللعبة السياسية، ثم أخذت تراقبها، لكنّ اللغة المزدوجة والسياسة المواربة لقادة “حماس” خلقت عائقاً أمام الدول الكبرى لقبول “حماس” والاعتراف بها. فيما اختارت إسرائيل شيطنة الحركة أمام الرأي العام، ومواصلة الحصار على غزة، لأنها تفضل “حماس” المتشددة والمصنفة كحركة إرهابية على “حماس” العقلانية والمعتدلة، وفوق ذلك تحدث نتنياهو علانية عن الفوائد التي تجنيها إسرائيل من انتهاج سياسة الفصل بين الضفة والقطاع كوسيلة لتقويض فرص إقامة الدولة الفلسطينية. ولتحقيق ذلك قررت احتواء “حماس” وحشرها ضمن معادلة “التوازن العنيف”، ومع استمرار ‏الحصار لجأت “حماس” للقوة العسكرية واستخدامها كوسيلة للتفاوض مع إسرائيل، لكن تدريجياً. 

المهم في النتيجة أن “حماس” شعرت بالإحباط جراء تعنت المجتمع الدولي، وتواطُئه مع إسرائيل في حصارها الخانق على قطاع غزة، ورأت أن استمرار الوضع الحالي يقلص خياراتها، ولا يترك لها مجالاً سوى اللجوء للقوة، أو ترك سكان غزة يواجهون الموت البطيء دون أن ينظر لهم أحد، والإذعان في الضفة الغربية للفرضية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين قد هزموا، وبأنه يتحتم عليهم البقاء محصورين ومخنوقين داخل كانتونات معزولة. ومن الواضح أن “حماس” رفضت الخضوع لهذا الواقع الظالم، وقررت المواجهة عسكرياً.

وهنا يجدر التذكير بأمرين، الأول: أن “حماس” هي بدايةً حركة إسلامية تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، والذين هم مرجعيتها، ومشروع “حماس” لا ينفصل عن مشروع الإسلام السياسي، بل هو آخر معقل لهذا المشروع، وغزة هي آخر بقعة جغرافية في المنطقة العربية يحكمها ويديرها الإسلام السياسي؛ لذا لن يكون سهلاً بأيّ حال التفريط بحكم “حماس”، بل من الضروري جداً أن تُثبت سلطة “حماس” نجاحاً على الأرض، وأن تقدم نموذجاً ملهماً، أو على الأقل أن تواصل صمودها حتى آخر نَفَس. والثاني: طبيعة تحالفاتها الإقليمية، وارتباطاتها مع كل من إيران، تركيا، قطر، وهي تحالفات تقتضي منها التزام سياسات معينة.

كما يجدر التنويه أيضاً أن تياراً وطنياً مهماً نبت من داخل “حماس”، ونشأ وتطور بعد انطلاقتها (خلافاً للتيار المحافظ التقليدي الذي نشأ قبل انطلاقة “حماس”، حين كانت فرعاً للإخوان المسلمين)، وهذا التيار الوطني (وأغلبه من “كتائب القسام”) له أطروحاته وتوجهاته وتحالفاته المختلفة والمتباينة عن التيار المحافظ الذي ظل ممسكاً بقيادة المكتب السياسي.

وهذه المعطيات ينبغي فهمها قبل الانتقال بالحديث عن تحولات “حماس” في مفاهيمها العسكرية وأساليبها في المقاومة، التي أعلنها بصراحة ووضوح الشهيد “صالح العاروري”، حين قدم الرواية الرسمية لـ”حماس” بشأن “طوفان الأقصى”، مؤكداً أن التجهيز والإعداد والتخطيط للهجوم بدأ تحديداً بعد معركة سيف القدس في أيار 2021، ثم جاء خطاب “أبو عبيدة”، وأعاد التأكيد على أن نقطة التحول والاستعدادات والتدريبات بدأت منذ ذلك التاريخ.  

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى